الكرسي المتحرك

حدّثني صديقي أنَّه صادف على الكورنيش (طرف البحر) رجل الأعمال (فلان - معروف لدينا) وهو على كرسي مُتحرّك مُقْعَد، وبجانبه أحد مساعديه يقوم على خدمته، وأخذنا الحديث بإحصاء بسيط عن الشَّخصيات الكبيرة التي كنَّا نتطلع لها بإعجاب وعظمة، ونتمنَّى الجلوس والتقرب منها؛ ومع مرور الأيام تفاوتت الأقدار فيما بينهم، هناك مَن أُصيب بالعجز والزهايمر، ومنهم مَن أُودِعَ دار العَجَزة مِن طرف أولاده وآخر ذهَب لرَبّه، ومنهم مَن يصعب عليه الطعام والمشي، ولكنَّ على الجانب الآخر هناك مَن لا يزال بصِحَّة جَيِّدَة ومُكَرَّم ومُعَزَّز بين أولاده وأهله.

والذي أحببتُ أنْ أذكره هنا هو ضرورة أن يَستشرف الإنسانُ ويَستحضر في أيَّام رخائه وشبابه وقُوّته ما قد يؤول إليه حاله عند كِبَر سِنّه وضَعْفه، والأحوال التي يمكن أن يصل إليها صِحِّيًّا واجتماعيًّا وماليًّا....، وأنه مُعرَّض لأن يؤول به الزمان لمثل هذا مستقبلاً، ويستعدّ لذلك؛ فيأخذ من أيام صِحّته لمرضه، ومن شبابه لضَعْفه، ومن غِناه لفقره.

ومن الأهمِّيَّة بمكان كذلك أن يعمل على تعزيز الرَّوابط بينه وبين أبنائه وأهله والمُقرّبين منه، وكذلك الأصدقاء القدامى، وأن يكون هو المُبادِر في خَلْق تلك الرَّوابط وتكريسها وخَلْق الجاذب الإيجابيّ عندهم بالتَّجاوب لذلك. ولا يعتمد على فكرة أنَّه هو الأب أو هي الأُمّ، وعلى الباقين خدمته ورعايته وزيارته من باب الواجب والبِرّ به. بل علينا أن نكون عونًا لأولادنا لكي يَبَرُّونا، وألَّا نكون عبئًا ثقيلاً عليهم، وخصوصًا مع تباعد الأماكن وكثرة المسؤوليَّات وتدنّي وتراجع القضايا المشتركة معهم.

وهناك أمور كثيرة يمكن أن تساعد بذلك، منها ما هو على الصَّعيد الشَّخصيّ؛ مثل: الانتباه إلى الصِّحَّة الذَّاتية، وعدم الاستهتار بها لتكون رصيدًا لنا لاحقًا، ومنها على صعيد التَّعامُل مع الأبناء والأقارب والأصدقاء.

وأذكر هنا ما تقوم به زوجتي خلال الأسبوع؛ حيث تُحضّر الطعام الشَّهيّ وتُصوِّره وتُرسله لجروب العيلة على الواتساب التي فيها أولادي مع الزَّوجات والأزواج، وتعمل على إغرائهم للحضور والاجتماع على سُفرة الطَّعام.

ومن الأهمِّيَّة استيعاب الأبناء حتى لو كانوا خارج السِّياق الذي تُريده، واعلم أنَّ تَقلُّب العباد وأحوالهم لا يعلمه إلَّا الله، والحُكْم المُسْبَق وتصنيف البشر بالمصير ليس من مهامّ العباد، وإنَّما أمرُهم لرَبّ العباد. ويحضرني هنا ما رُوِيَ عن سيدنا أبي حنيفة -رحمه الله- بهذه القصة المرفقة؛ وذلك لما فيها من لفتات عدَّة (رغم الاختلاف في مدى صِحّتها). ولكن هناك روايات كثيرة في السِّيرة النبويَّة والتابعين تحكي عن نفس المعنى المجازي للموضوع.

كان لأبي حنيفة جارٌ سِكِّير فاسد، نصَحه حتى تعب من كثرة نُصْحه.. فتركه.

وذات يوم طرقت الباب زوجة السِّكِّير تدعو الإمام أبا حنيفة للصَّلاة على زوجها السِّكِّير بعد موته.. فرفض. وفي منامه جاءه السِّكِّير وهو يتمشى في بساتين الجنَّة ويقول: "قولوا لأبي حنيفة: الحمد لله أنَّ الجنة لم تُجعل تحت يده".

و لما أفاق ذهب الإمام وسأل زوجته عن حاله.. فقالت: "إنَّ ممَّا تعرفه عنه أنَّه كان في كلّ يوم جمعة يُطعم أيتام الحي، ويَمسح على رؤوسهم، ويبكي، ويقول: ادعوا لعمّكم؛ فلعلها كانت دعوة أحدهم.

فندم أبو حنيفة أشد النَّدم. وخرج إلى أصحابه بعد هذه الحادثة، وقال لهم: "لا تسبُّوا أصحاب المعاصي ولا تحتقروهم، فإنما نحيا بستر الله، ولو كشَف الله عنا سِتْره لفُضِحْنا. ولا تغترّوا بكثرة صيام أو صلاة؛ فلا تدروا مَن يكون إلى الله أقرب".

كم مِن قصص وعِبَر تمر علينا مرور الكرام وتذهب طيّ النسيان لنعود إلى جبروت الصِّحَّة والعافية والمال والجاه، وكأنَّ الزمن توقَّف عندنا ونحن في زهوة الشَّباب والعنفوان.

ومن خُلاصات قصة سيدنا أبي حنيفة أيضًا ما يلي:

١- الاستمرار في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر دون مللٍ أو كللٍ، وبالتي هي أحسن؛ (انصَحْ ولا تَفْضح، وعاتِبْ دون أن تجرح، ولا تحكم على النَّاس بمصيرهم) .

٢- أهمِّيَّة الاعتناء باليتامى ورعايتهم رعايةً متكاملةً، وليس فقط تأمين المأكل والمشرب، وإنَّما بحُسْن المعاملة، ودوام التَّواصل معهم بأحسن الطُّرق؛ فالمسح على الرأس له بُعْد آخر تمامًا من العطاء الرُّوحيّ والمعنويّ لليتيم.

٣- عدم الأخذ بالظواهر فقط؛ لأنَّه لا يعلم ما في القلوب غير ربّ العباد. فلا تَحتقر شخصًا ولو رأيته يعصي الله بأكبر المعاصي؛ فلا يدري أحدنا مَن هو أقرب عند الله.

٤- من الأهمِّيَّة أن يعمل الإنسان على سَتْر معاصيه، وعليه أن يداوم على الاستغفار والتوبة والعودة إلى الله تعالى؛ فمن تابَ من ذنبه بصِدْق وجد ربًّا كريمًا ورحيمًا، لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، أنين المذنبين أحبّ إليه من إعجاب المغترّين.

٥- منزلة الدُّعاء عظيمة؛ فالدُّعاء هو العبادة، وله مكانة كبيرة، وخاصةً دعاء اليتامى والمساكين والضعفاء، فاحرص على الوصول لقلبهم لتنال محبتهم ودعاءهم.

٦- أهمِّيَّة جَبْر الخواطر، وخصوصًا لمن هو بموقع الضعيف والمسكين.

أسأل الله تعالى أن يكتب لنا أن نكون ممَّن هم إلى الله أقرب، وأن يجبر خواطرنا بالقبول برحمته، وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.


 

Previous
Previous

بوابة المرفأ وجوفاني

Next
Next

الشراكة ورقم 2