بين الماضي والحاضر والبامبو رحلة بين (إسطنبول وبروكسل)

أقلعت الطائرة بينما كنت أشاهد مقطعًا لطيفًا يتحدَّث عن طبيعة نبات، لا أدري لماذا شعرت بمقاربة لرحلة مدّتها قرابة ثلاث ساعات تمضي بسرعة بفترة عمريَّة لثلاثين عامًا، وجالت بي خواطر كثيرة أحببتُ أن أشارككم معي في بعضها.

يا ترى كم من الناس (وأنا منهم) بعد أن تقدَّم العمر بهم يُراجعون أنفسهم والسّلوكيات التي كانوا عليها في أيام شبابهم حين كانوا في قُوّتهم وجبروتهم، وكان الوقت والمال لديهم وأولادهم حولهم وهم يأمرون وينهون بهم، حين كانت لديهم السُّلطة والقرار، يقودون السَّيَّارة بأنفسهم ويجولون بها يمينًا وشمالًا، أيام كانت صِحّتهم في أحسن أحوالها قبل أن يبدأ عندهم تناول الأدوية اليوميَّة (الضَّغط، السُّكر، دواء سيولة الدم، وو و…. إلخ)، ويتابعون مواعيد الأطباء والتحاليل يومًا بعد يوم، حين كانوا يستطيعون أَكْل ما يريدون دون الحاجة لتَجنُّب هذا الصّنف أو ذاك، كانت أسنانهم حينها بلا تركيب ولا زرع.

كانوا يرون أنَّهم على الحقّ وأصحاب الرَّأي السَّديد في معظم ما يفعلونه، والآخرون هم المخطئون دومًا.

بالطَّبع يبحثون دومًا كيف يزيدون مِن دَخْلهم ومكانتهم وسُلطتهم، ولا يُقدِّرون قيمة الصِّحَّة والوقت والعائلة والأصدقاء كما ينبغي.

 

يا تُرَى في تلك الحقبة الزَّمنيَّة من عُمْر الإنسان: هل فكَّروا أو خَطر ببالهم أنهم سوف يحتاجون يومًا ما إلى مَن يجلس معهم، ويستمع إلى قصصهم وكلامهم الذي لا يَعْني شيئًا للآخرين، وأنهم سيحتاجون 6-8 أنواع من الأدوية يوميًّا لكي يُرَمِّمُوا ما عندهم من عِلَل، وأنَّهم يتطلَّعون بشَغَف ليحصلوا على خمس أو عشر دقائق من حفيدهم أو حفيدتهم يتركون فيها ما يَحْملون من جَوّال أو(الآيباد) الذي بِيَدِهم ويستمعوا ويُنْصِتُوا لهم، وأنَّهم بحاجة إلى صديق يسردون له من قصص الزَّمان دون امتعاضٍ منه أو مللٍ، أو يَقبل أن يلعب معه طاولة الزهر أو لعبة الشطرنج لبرهةٍ من الوقت يتسامرون بها عن ذِكْريات الماضي الجميل؟!!

يا ترى هل حَدّثوا أنفسهم في تلك الأيام أنهم سوف يكونون هم مَن هو في الحاجة للآخرين، وليس العكس بكلّ كبيرةٍ وصغيرةٍ، وأنهم سوف يحصدون ما زرعوا.

وأنَّ الدُّنيا دَيْن ووفاء، والدَّيَّان -سبحانه وتعالى- لا يموت ولا يَنْسى.

وقد تأتي هذه الحاجة للآخرين بشكلٍ مُتدَرِّج وضِمْن إشارات تحذيريَّة متتالية، ولكن قد تأتي أيضًا ضِمْن ضربات مُستعجِلة ومُفاجِئَة.

 

كم نحن نحتاج إلى ثقافة زراعة البامبو الذي لا بُدّ من وَضْع البذور ورعايتها بشكلٍ يوميّ لسنين طويلة دون كللٍ ولا مللٍ وهي تحت الأرض دون أن نَرى منها ومن ثَمرها شيئًا إلى أن يأتي اليوم الذي يشبّ فيه الزرع فجأةً خلال أيام وأسابيع قليلة عشرات الأمتار حين نحتاج لكل شيءٍ من مُقوّمات الحياة، وبأقصى سرعةٍ مُمكنةٍ.

 

كم هو مُهِمّ للجيل الجديد أن يأخذ العِبْرَة ممَّا سبَقه، وأن يزرع البامبو ويصبر عليها ليراها يومًا ما في مستقبله القريب.

(هبطت الطائرة، ودمتم بسلامٍ)

Previous
Previous

أَطْلِق المُبادَرَة

Next
Next

ابدأ وصَحِّح على الطريق